الثلاثاء، 15 فبراير 2011

( رامى ومينا ) شهيدان من الثورة



منى عشماوى

معظم الشباب اللذين خرجوا فى تظاهرات جمعة الغضب والأربعاء الدامى لم تكن عائلاتهم تعلم أين ذهبوا، فأغلبهم خرج خلسة للمشاركة فى تظاهرات الثورة لنفاجئ جميعا أن صناع الثورة استطاعوا بل هم حلموا وأرادوا وحققوا إنجازا لم يكن يخطر حتى فى أحلامنا .. وعندما جاءت الأخبار إلى الأهل بأن أولادهم الذين كانوا يعتقدون إلى وقت قريب إنهم ( شوية عيال بتلعب على الإنترنت ) بأن العيال استشهدت واعتقلت وجرحت جروح خطيرة لم يصدق الأهل أنفسهم ، شباب كالورد امتلأت المستشفيات وثلاجات المشرحة وسجون المعتقل بل وكثير منهم مفقود حتى الآن .

رغم تضارب أعداد الإحصاءات للشهداء والجرحى والمفقودين إلا أن الأرقام الحقيقية ستبدأ مع بداية محاسبة المجرمين. ذهبت إلى منزل أحد الشهداء وهو رامى جمال وجلست مع أسرته المكونة من أمه وأبيه وأخوه محمد الذى كان معه أثناء التظاهرة التى فاضت روح رامى فيها إلى بارئها .

رامى كان يعمل فى ( مبيعات الموبايل ) أما هوايته التى عشقها فكانت الغناء .. يؤلف مع أصدقائه كلمات الأغانى ويلحنها. رامى الذى لم يتجاوز ( 22سنة ) ترك كلماته الأخيرة لوالدته قبل أن يخرج مع أخيه محمد لأداء صلاة الجمعة دون أن يذكرا أنهما سينضمان إلى التظاهرات بعد الصلاة .. جاءت كلمات رامى غريبة على الأم التى سمعته يقول لها : " لو مارجعتش يا ماما ابقى تعالى اسألى عليا الساعة 11 بالليل ".. استغربت الأم وسألته : " أسأل عليك فين ؟؟ " .. تلعثم رامى الذى أراد الخروج إلى المظاهرة حتى لا يمنعه أى شخص وقال لها : " ابقى اسألى عليا أصحابى " .. وضحك ، وتخيلت الأم أن رامى بيهزر بيشاكسها كما تعودت منه ذلك .

المشهد الثانى .. سمعت الأم صوت رنين الهاتف ليكون محمد ابنها البكرى الذى خرج مع شقيقه الأصغر رامى فى مظاهرات الجمعة .. وكما أسماها المتظاهرون الثــوار " جمعة الغضب " : " ماما بلغى بابا إن رامى اتعور فى المظاهرات وهو دلوقتى فى المستشفى اللى فى السيدة زينب مستشفى السيدة " .. هرولت العائلة وذهبت إلى المستشفى لكن رامى لم يكن فى أحد غرفها بل كان فى أحد ثلاجاتها أصيب من قناص بالداخلية برصاص فى الرأس فأردته الرصاصة قتيلا .

تتذكر الأم كلمات رامى الأخيرة " ابقى تعالى اسألى علىّ " ورددت دون أن تشعر بصوت عالى : " وأنا جيت يا رامى عشان أشوفك وجتلك زى ما قلتلى " .... نعم ذهب رامى قبل أن ينجز أى شيء تاركا وراءه حبيبته التى وعدها أنه سيتقدم لخطبتها فى الصيف لكن لم يأت الصيف واستشهد رامى برصاص غادر بارد .. ليبقى منه بعض الصور وبعض الأغنيات سجلها مع أصدقائه على الكمبيوتر الخاص به ..

سألت الأب جمال محمد : " لو كنت تعرف أن رامى وأخوه سينزلان إلى التظاهرات .. هل كنت منعتهما ؟؟ " .. فأجاب الرجل بحسرة قائلا : " طبعا لأنى أب خايف يمكن لو كنت منعتهم من النزول كان رامى عاش " .. ثم يسكت لحظة ويكمل : " لكن رامى راح فدا مصر .. صحيـــح مات لكن عاشت مصر حرة .. وهو إنشاء الله فى الجنة " ..

بعد انتهاء العزاء بيومين قرر الأستاذ جمال أبو رامى ووالدته الذهاب إلى مكتب النائب العام ليقدما شكوى ، ومن ثم رفع قضية ضد القناص الذى قام بقتل ابنهما، أما الأخ الأكبر لرامى ( محمد ) والذى كان برفقته وبين ذراعيه نطق رامى الشهادة فيعد بأنه لن يترك حق أخيه ولا شيء يشفى غليل الحسرة سوى القصاص .. ومحمد يروى لنا الدقائق الأخيرة قبل وفاة رامى وبعد وفاته ليقول : " رامى أخويا أطول منى بكتير وكنا نمشى فى مظاهرة بالقصر العينى متجهة إلى مجلس الشعب بعد صلاة الجمعة وفجأة وجدت الرصاصة فى رأس رامى ووقع على الأرض ولقنته الشهادة وحملته مع اثنين كمان ورضا للمستشفى .. فى البداية قالوا لنا لازم نشرح رامى .. قلت لهم حتشرحوه ليه ؟؟ ده قناص ابن .... هو اللى قتله .. فرد الدكتور : " إذن سنعطيكم تصريح بالدفن على إن رامى مات نتيجة هبوط حاد فى الدورة الدموية " .. هنا بدأ محمد بالبكاء وقال : " يعنى يقتلوا أخويا وبعدين عايزين ياكلوا حقه ويحموا المجرمين " .. وزعقت وقلت : " لأ اكتب فى تصريح الدفن اللى حصل " .. وعملنا مظاهرة فى المستشفى أنا واثنين كانوا يحملون معى رامى وبعد إصرارنا تم كتابة أن القتيل مات نتيجة رصاصة بالرأس " ويسكت محمد ثم يكمل : " أنا عاوز حق أخويا ومش هنسكت .. رامى راح فدا مصر يا ريتنى كنت معاه رحت فدا مصر أنا كمان " .. وينتهى الكلام ويبكى محمد .. لتعلو أصوات البكاء فى كل مكان فى المنزل ..

على بعد شارع واحد من منزل رامى جمال فى الهرم التقيت عائلة الشهيد ( مينا نبيل ) فى فيصل وعمره أيضا لم يتجاوز الاثنين وعشرين عاما ... والدته فى البداية رفضت أن تتكلم يخنقها البكاء والألم والحسرة لكن تحاملت على نفسها وتحدثت معى ..

تتحدث معى بصوت يخنقه البكاء : " ابنى مينا كان أحسن أولادى حتى من يأتى تحت بيتنا ويريد أن يطلع أو يقول لنا شيء بينادى ويقول يا مينا ، النهاردة الصبح لم هدومه من ع الحبل .. مش مصدقة إن مينا مات حاسة زى مايكون راح مكان وراجع .. مش عارفة أعمل إيه طب أروح لمين ؟؟ أشتكى لمين ؟؟ مينا مات غدر .. كان واقف فى اللجنة الشعبية اللى بتحمى الشارع وبعدين كل اللى واقفين قالوا له يا مينا روح اشترى لنا سجاير عشان هو أصغر واحد فيهم .. وبالفعل راح آخر الشارع وبعد عن اللجنة فطلع عليه واحد من المجرمين اللى هربوا من السجون وقالوا له طلع اللى فى جيوبك وسلط عليه مسدس على دماغه .. وأنا عارفة ابنى مش بالساهل يضعف قام الواد المجرم قتله وسرق اللى فى جيوبه وهرب .. ابنى مات فى ثوانى .. مات غدر " .. وتسكت أم مينا ليعلوا صوت البكاء فوق صوت الكلام .

سمير شقيق مينا الأكبر كان منذ اليوم الأول من الثورة فى ميدان التحرير وحصل على نصيبه من الرصاص المطاطى يوم الأربعاء الدامى فمازال الرصاص يترك حفرة فى وجهه لن تذعب .. حفرة تذكر سمير بما حدث كلما مرر يده عليها .. سمير فى حرقة يبكى أخيه ( مينا ) يريد حق مينا حتى لو كانت العائلة من الناس الغلابة ويقول : " مينا اتخطف من وسطنا .. راح على إيد المجرمين .. أنا مش عارف ليه ؟؟ طب ليه يروح شباب زى مينا علشان عاوزين الخير لمصر ؟؟ الشباب ده كله ماكنشى فى أى حزب ولا أى تيار .. إحنا ولاد مصر .. وعايزين نعيش فيها واحنا بنحبها لأننا مش عارفين نعيش فيها فى عهد مبارك .. كنا بنكرهها .. كل واحد فينا عايز ينط من المركب قبل ما تغرق ، أنا عارف إن مينا راح علشان مصر زى اللى ماتوا فى حادثة كنيسة القديسين .. وأهو عشان مصر عشان ولاد اللذينة عاوزين يقولوا إن فيه فتنة بينا .. لكن كل حاجة حصلت بعد كدة أثبتت للعالم كله إ كلنا إيد واحدة وبنطلب حاجة واحدة .. ومينا مع اللى ماتوا معاه مش هيروح دمهم هدر .. مش هيروح دمهم هدر .. وبقول للدنيا كلها إن النظام المخلوع هو سبب الفتنة .. هو سبب الفتنة !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق