الاثنين، 14 فبراير 2011

عندما كان البلطجية يمنعون الدواء عن ميدان التحرير

شهادات وحكايات عن قرب حول الثورة:

عندما كان البلطجية يمنعون

الدواء عن ميدان التحرير

سهام ذهني

مواقف مرت بكل منا، كنا نشعر أنها صعبة جدا وقت حدوثها خلال الإسبوعين الماضيين، إلا أننا حين ننظر اليوم إليها فإننا نتعامل معها وكأننا كنا نشاهدها عبر فيلم سينمائي، أوكأننا لم نكن داخل مخاطرها وفي وسط لهيبها.

مخاطر عديدة مر بها غالبيتنا. حين يحكيها أي منا اليوم فإنما هو يحكيها على سبيل تسجيل ملامح من جزء متواضع في داخل اللوحة الملحمية التي سطرها أو قام بتطريز خيوطها الملايين من الشعب المصري العظيم، كل في الزاوية التي تحرك خلالها. والآن وبعد أن انجلت الغيوم، وسطعت الشمس، فإن هناك شهادات كثيرة جدا على كل منا أن يقوم بتسجيل ما رآه فيها.

وهذه شهادة مني على مشهد من المشاهد العديدة التي قام فيها البلطجية بقطع الطريق على من كانوا يحاولون توصيل الدواء والطعام والماء إلى المعتصمين في ميدان التحرير صباح الخميس 2 فبراير، عقب الأربعاء الدامي في ميدان التحرير الذي كان فلول الحزب الوطني قد استأجروا خلاله البلطجية للاعتداء على المعتصمين في محاولة للترويع وبث الخوف. ولقد كنت شاهدة عيان وجزء صغير في داخل مشهد جرى يوم الخميس 2 فبراير.

كانت أنباء إندلاع الاشتباكات في ميدان التحرير بين البلطجية والمتظاهرين المعتصمين بالميدان كفيلة بأن تجعل الكثيرون يتراجعون عن التعاطف الذي بدر منهم تجاه الرئيس حسني مبارك عقب بيانه الذي ذكر فيه أنه لن يترشح للرئاسة من جديد وأنه يريد أن يموت على ارض مصر.

أما حين تطورت الاشتباكات إلى درجة أن يموت عدد كبير من أبناء الوطن ويسقطوا شهداء على يد مصريين مأجورين من الحزب الوطني حسب شهادة من حضروا الوقائع، وسقوط عدد هائل من الجرحى الذين قام زملاؤهم بإسعافهم في مستشفى ميداني أقاموه داخل مسجد عمر مكرم في ميدان التحرير فإن مزيدا من التحدي والإصرار على مواصلة الثورة قد صار هو المتوج للمشهد. ثم بمجرد أن أعلن المعتصمون خلال الليلة نفسها عبر شبكة الإنترنت أن كمية المتطلبات الطبية آخذة في التضاؤل بسبب كثرة عدد المصابين، فإن هذا الإعلان كان كفيلا بأن يتحرك عدد كبير من المصريين بشكل تلقائي لتوصيل احتياجات الإسعافات الطبية إليهم.

ويبدو أن كل مصري قد تحرك في الصباح لتوصيل ما يقدر عليه من مواد إسعافية مصمما على توصيلها بعيدا عن الاعتماد على الافتراض بأن أحدا سواه سيقوم بالمحاولة نفسها مثله.

وكنت واحدة من هؤلاء الكثيرين الذين قرروا الاستعانة بالله من أجل توصيل المساعدات الطبية للمساهمة في إنقاذ إخوتهم وتخفيف الألم عن المصابين.

ولقد هداني تفكيري إلى أن أقوم في الصباح بجمع تبرعات عينية من المستشفيات القريبة من بيتي في "المهندسين". أول مستشفى اتصلت به كانت مستشفى الدكتور شعلان، حيث وجدت الرد عبر صوت ينطق بالأمل بأن هناك طببيبة في الطريق الآن إلى الميدان ومعها كمية من المساعدات، شعرت بالفرحة وتمنيت لهذه الدفعة من المساعدات أن تصل سريعا، كما تمنيت أن تلحق بها دفعات أخرى فواصلت الاتصال بالمستشفيات إلى أن جاءني الرد من مستشفى الدكتور"أحمد شفيق"، حيث تحمس في الحال الدكتور "علي شفيق" وأخبرني بأنهم سيجهزون لي كمية من المساعدات فورا، فنزلت بسرعة متوجهة إلى المستشفى حيث وجدت في انتظاري الدكتور "محمد يحيى" الذي طلب مني أن أتصل به بعد توصيل المساعدات كي أوضح له مدى إمكانية ذهابه للمساهمة في إسعاف المصابين بعد الانتهاء من عمله بالمستشفى، وقدم لي المواد الطبية التي تبرعت بها المستشفى، وإذا بها أكبر مما أتصور.

محفوفة بالمخاطر محاولة الوصول إلى ميدان التحرير في ظل سيطرة البلطجية والمأجورين الذين اعتاد الحزب الوطني على استئجارهم لترويع الخصوم في الانتخابات، وهذا هو ما تأكد لي بمجرد وصولي إلى كوبري الجلاء في طريقي إلى ميدان التحرير.

بمجرد أن نزلت من سيارة الأجرة وأنا أقوم بجر كيسين كبيرين يفصح لونهما الأبيض عن محتوياتهما من المستلزمات الطبية حتى اقترب مني الكثير من المأجورين يحذرونني من مجرد التفكير في الاقتراب من الكوبري وإلا فإن البلطجية سيلقون بما أحمله في مياه النيل مثلما فعلوا مع مواطنة أخرى حاولت العبور من قبلي مباشرة على حد زعمهم، كما رأيت في الوقت ذاته عددا من المواطنين العاديين الذين يقومون بالدعاء لي قائلين :"ربنا يعينك"، وأيضا إلتقيت بالكاتب الصحفي "أحمد النجار" الذي أخبرني أنه قد جرب منذ قليل عدة مداخل أخرى لميدان التحرير ورأى البلطجية يمنعون كل من يحاول اجتيازها للوصول إلى التحرير، ثم أخبرني أن هناك من قال له أن مدخل الزمالك هو الممر الأكثر أمنا إلى التحرير.

قبل أن نتحرك للعثور على تاكسي باتجاه الزمالك فوجئت بأمر لم أستوضح تفاصيله جيدا من شدة المفاجأة، وهو أن بلطجي قد باغتني، وقام في لحظة خاطفة بشق أحد الأكياس التي أحملها مستخدما آلة حادة، مبعثرا بذلك محتويات الكيس الضخم على الأرض، مع أصوات عديدة صدرت من عدد من المرتزقة المنتشرين في المكان يؤكدون بعدوانية بأنهم لن يسمحوا بمرور دواء إلى التحرير، بالإضافة إلى اقتراب أكثر من واحد منهم باتجاهي بجملة مستفزة، وإن كانوا يتظاهرون بأنهم يقولونها لي على سبيل النصيحة وهي"روّحي علشان ماتتتبهدليش".

لحظتها منحني الله القوة لكي أصيح بصوت جهوري: "بل سأنقلها إلى ميدان التحرير ولو كان ذلك على جثتي" .

إبتعدوا عن أمي

ولحظتها أيضا أعقبت المفاجأة السيئة مفاجأة أخرى جميلة وهي اقتراب شاب لا أعرفه، قوي البنية، إقترب مني صائحا في وجه البلطجية: "إبعدوا عن أمي"، مكررا : "هذه أمي ولن أسمح لأحد بالاقتراب منها". كما أشار لي جندي الجيش المتواجد في المنطقة بأن أدخل إليه حيث يقف خلف أحد الحواجز التي لا يسمح للآخرين بتخطيها.

دخلت ومعي الشاب الذي ذكر أنني أمه بعد أن قمنا بلملمة ما تبعثر من علب الدواء وأكياس القطن من فوق الأرض وربط الكيس الذي تم قطعه لإعادة تعبئة المستلزمات الطبية فيه وذلك بمعاونة معظم المواطنين العاديين الذين أخذوا في مساعدتنا وإعادة ما تبعثر إلينا، بينما المزيد من المأجورين يقتربون من الحاجز ويقولون:"روّحي أحسن علشان ما تتبهدليش"، وحين تكرر ذلك القول منهم قمت برفع صوتي ليسمعوا جميعا قائلة بأن من يُقتل دون دمه فهو شهيد، وأنني لن أقبل إلا بالذهاب إلى التحرير ومعي الأمانة التي أحملها ولو كلفني الأمر الاستشهاد في سبيل ذلك.

إقتربت مني فتاة لا أعرفها وهمست بأنها ستتصل ببعض من تعرفهم في الميدان كي يأتوا وينقلون الأدوية.

مر بعض الوقت فشعرت أن مجئ أحد من ميدان التحرير هو مجرد محاولة وليس من المؤكد النجاح فيها. فأخذت في تنويع مضمون الخطاب الذي أتوجه به للواقفين إلى جوارنا خلف الحاجز، بأن أستخدم الأساليب العاطفية، فقلت بتأثر أنه يؤسفني أن أعيش وأرى المصري يمنع متطلبات إنقاذ الحياة عن أخيه المصري، بدأ أحد المأجورين يبرر موقفهم تجاه إخوتهم قائلا: نحن لا نريد أن نتركهم يموتوا، إنما نريد أن يؤدي التضييق عليهم إلى الاستسلام وترك الميدان. فدعوت عليه بصوت مرتفع:"إلهي ربنا يرميك في ضيقة"، صمم الرجل على كلامه، فكررت: " ويرمي أولادك في ضيقة ولا يجدوا من ينقذهم"، إهتزت ملامح الرجل فتأثرت لأن أبنائه لا ذنب لهم، كما تأثرت لشعوري بأنه قد تم تضليله وإقناعه بأن يسترزق ويأخذ مبلغا ماليا في نظير التصدي للمتظاهرين، فدعوت بيني وبين نفسي بأن يهديه الله.

مدد مدد

شدي حيلك يابلد

في هذه الأثناء كان قد وصل عدد كبير من المواطنين الذين يحملون أطعمة وعصائر من أجل الوصول بها إلى المعتصمين في التحرير الذين يروعهم البلطجية مؤكدين على أنهم لن يسمحوا بوصول طعام إليهم. إستحضرت قول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".

بعدها وصلت فتاة تحمل مثلي أكياسا ممتلئة بالأدوية التي حاولوا اختطافها منها وسط استبسال رائع منها واستخدام العديد من العبارات التي سبق أن قمت أنا باستخدامها قبل وصولها، وكأن هناك إتفاق مسبق بيني وبينها من قبل، بل وكأن هناك اتفاق مسبق من الجميع بالوقوف في وجه البلطجية والتصدي لهم والتأكيد أمامهم على عدم الخشية من بلطجتهم.

بدأت أشعر أن عددا كبيرا من المأجورين القريبين مني يقومون بدورهم في الجعجعة بصوت عال ضد كل من يحمل طعاما أو دواءا للمعتصمين بطريقة أقرب إلى من يخشى وجود أحد يقوم بمراقبته كي يتأكد من أدائه للدور الذي طلبوه منه قبل دفع المبلغ المتفق عليه مقابل هذه المهمة، كما شعرت أن الكثير منهم مصريون طيبون، لكنهم ينقصهم الوعي، كما شعرت في الوقت ذاته بأنهم مضغوطين ماليا، بالتالي فهم يتعاملون مع الأمر بطريقة شبيهة بما اعتادوا أن يفعلونه خلال الانتخابات حيث يستأجرهم مرشح للتشويش على مرشح آخر، فيأخذون المال ممن يدفع باعتباره موسم للاسترزاق.

قبل ان يزداد إستغراقي في تأمل المشهد، همس لي الشاب الذي قال أنني أمه بأن أستعد لأن المجموعة التي تحمل مساعدات للمعتصمين قد اتفقوا على أن نجري جميعا باتجاه التحرير في كتلة بشرية واحدة.

وفي النهاية وصلت المساعدات بفضل الله إلى إخوتنا في التحرير.

إلا أنني بعد أن هدأت الأحوال أردت أن أتوجه بالشكر إلى الشاب الذي وقف في وجه البلطجية قائلا أنني أمه دون حتى أن يخبرني باسمه أو هويته، وحين استرجعت المشهد تذكرت أننا أثناء الجري معا ككتلة باتجاه ميدان التحرير كنت قد رأيته يتحدث مع الزميل الكاتب الصحفي القدير "أحمد النجار"، فاتصلت به حيث أخبرني أنه واحد من الشباب الذين تعرف عليهم في ميدان التحرير دون أن يحتفظ برقم تليفونه، ثم أضاف أن لديه رقم تليفون صديق لهذا الشاب اسمه "مصطفى الكاشف"، فاتصلت بمصطفى الكاشف وعرفت منه أن ذلك الشاب اسمه "أحمد الحصري"، وحين اتصلت به وشكرته، جاءت كلماته مليئة بإنكار الذات والتعبير بصدق عن شعوره بأنه لم يفعل سوى ما أملاه عليه ضميره، وأنه مثله مثل الملايين من المصريين الذين وقف كل منهم إلى جوار بعضهم البعض في لوحة هادرة مليئة بالتعبير عن التكاتف لوجه الله وحبا في الوطن، مستهينين بالمخاطر، وغير منتظرين لأي مقابل، فالمقابل الذي أراده الجميع هو الوصول إلى الخبز والحرية والعدالة الإنسانية.

الحمد لله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق