الاثنين، 28 فبراير 2011

التفسير الماركسي لثورة 25 يناير



عصام زكريا

على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية بكينا وضحكنا كثيرا، ثرنا ونزلنا إلى الشوارع وحاربنا وحوربنا...أحببنا وكرهنا...أيدنا وعارضنا وصرخنا بأقصى ما يمكننا غضبا وفرحا...لم نتوقف لحظة حتى أطلق الحكم صافرة النهاية بتنحي مبارك عن السلطة...عدنا إلى بيوتنا ونمنا وفي الصباح استيقظنا على عالم جديد لا نعرفه...فراغ ليس نابعا فقط من فراغ السلطة ولكن من الشعور الساحق بعدم التصديق وعدم الفهم.

"لا تضحك ولا تبك ولكن حاول أن تفهم" هكذا ينصحنا سبينوزا – الفيلسوف الهولندي من القرن السابع عشر – لمواجهة الأزمات والأحداث الجسيمة التي تواجهنا.

ولكن قبل أن نحاول أن نفهم علينا أن نحدد الأسئلة أو النقاط التي أثارت الدهشة فيما حدث.

أول ما أثار عجب الجميع هو انطلاق ثورة 25 يناير من الفيسبوك. التعليقات والنكات التي خرجت حول هذا لا تحصى ولكنها تعبر عن حجم الدهشة كما لو أن بعوضة قتلت فيلا.

جمال مبارك نفسه – العدو الأول لهذه الثورة – أبدى سخرية مقيتة من الفيسبوك وحركة 6 ابريل حين سأله أحد الصحفيين في مؤتمر للحزب الوهمي عن رأيه في معارضيه منذ عدة أشهر.

أما أكثر ما أثار دهشة وصدمة النظام الأمني المتوحش فهو أنها ثورة بدون رأس. لقد اعتاد النظام المخضرم في الإجرام والإفساد على ضرب واختراق المعارضة الحزبية والحركات السرية من خلال ضرب وشراء ذمم قادتها، ولكن هذه الثورة كانت أشبه بإخطبوط له مليون ذراع وبدون رأس...وقد علق كثيرون بعد أيام من اندلاعها– وبطريقة سلبية غالبا – أن هذه الثورة وهذه الجموع بلا قادة يمكن التفاهم أوالتفاوض معهم.

وترتبط هذه الدهشة السلبية بدهشة أخرى إيجابية من مشاركة كل التيارات الفكرية والمذهبية واللامذهبية في هذه الثورة من مسلمين ومسيحيين واخوان وعلمانيين وفقراء وأغنياء وأنها لم تقتصر على محافظة أو مدينة واحدة إلى آخره...بحسب التاريخ فإن هذا النوع من الثورات كان يحتاج إلى قادة ومخططين كبار بحجم قادة الثورة الفرنسية أو الثورة الشيوعية...ولعل هذه أول ثورة في التاريخ ليس لها رأس أو قائد!

أعتقد أيضا أن كل التيارات الحزبية والسياسية المعارضة اندهشت كل على حدة من حجم الثورة الذي يتجاوز قدرة كل هذه التيارات مجتمعة من أحزاب لاوجود لها في الشارع وأخوان مسلمين تتراجع شعبيتهم بإستمرار وحركات صغيرة ضعيفة مثل "كفاية" ومثقفين غارقين في رثاء الذات ومشاريعهم الفردية الضيقة...إلى آخره.

وبقدر الدهشة من قوة الثورة رغم ضعف المعارضة بقدر الدهشة من الانهيار السريع للدولة الجبارة بسلطتها وثروتها ومؤسستها الأمنية التي تقدر بملايين الضباط والمجندين والمخبرين والبلطجية وأجهزة مخابراتها وأمنها وحزبها الحاكم الذي اختفى من الوجود بين ليلة وضحاها.

ماركس والفيسبوك

هل يمكن فهم ما حدث بدون الرجوع إلى كارل ماركس- حتى لو كانت الماركسية كمذهب سياسي قد تراجعت وانزوت من العالم؟

حتى الآن لا يوجد منهج لتحليل الثورات والصراعات الإجتماعية والسياسية أدق أو أشمل من الماركسية بغض النظر عن انتماء المحللين السياسي...وحتى أكبر المدافعين عن الرأسمالية – أو الدولة الدينية – يستخدمون المنهج الماركسي ولو بدون وعي منهم.

الإقتصاد والصراع الطبقي بين فئات المجتمع يصنعان الحراك الفكري والسياسي. الطبقات الحاكمة تصارع للحفاظ على الوضع القائم وتسعى لمزيد من التسلط وقهر واستغلال الطبقات الأدنى في حين تسعى الطبقات الدنيا إلى الصعود للسلطة وتغيير الوضع القائم بكل وسيلة.

في زمن ماركس – نهاية القرن التاسع عشر – كانت الثورة الصناعية قد وصلت إلى ذروتها وقضت على أشكال المجتمع القديمة التي تعتمد على الزراعة، وقد رأى ماركس أن الخلاص سيأتي على يد الطبقة العاملة – البروليتاريا – لعدة أسباب على رأسها أنها الطبقة الأكثر وعيا بحكم صلتها المباشرة بالتكنولوجيا. ولعل الكثيرون من الماركسيين أنفسهم لا يعرفون الأهمية التي أولاها ماركس للتكنولوجيا ووسائل الإتصال الحديثة لدرجة أن بعض خصومه اتهموه بأنه من دعاة "الحتمية التكنولوجية"...أي أن تطور التكنولوجيا هو الذي يحرك الوعي والفكر والفن والثورة.

نقاد "الحتمية التكنولوجية" يرون أن مضمون الوعي، أي الأفكار السياسية والإجتماعية والفلسفية والدينية، هي التي تصنع التغيير في الوعي، ولكن ماركس ببصيرته النافذة كان يرى – منذ أكثر من قرن ونصف – أن الثورة التكنولوجية هي التي تصنع وتغير الوعي وبالتالي المجتمع أكثر مما تفعل الفلسفة والفنون وسائر المنتجات الذهنية.

ماركس وانجلز كتبا أيضا في "البيان الشيوعي" – الذي صدر لأول مرة عام 1872 – عن الدور الذي تلعبه وسائل الإتصال الحديثة في جمع وتوحيد الطبقات المقهورة، وهما يكتبان بالنص:

" الطبقة العاملة لا يزداد عددها فحسب مع تطور الصناعة، ولكنها تتجمع أيضا في جماهير أوسع وأعظم فتنمو قوتها وتحس هي بهذه القوة بصورة أكبر. كذلك يزداد تقارب المصالح وظروف الحياة المختلفة في صفوف الطبقة العاملة بمقدار ما تمحو الآلة كل فرق في العمل....ويساعد على هذا الإتحاد واشتداده تطور وسائل المواصلات التي تخلقها الصناعة الحديثة والتي تجعل العمال في مختلف الجهات والمناطق على احتكاك ببعضهم البعض"!

طبق هذا الكلام على ما وصلت إليه ثورة الإتصالات - الانترنت والفيسبوك وسوف تكتشف التشابه المذهل.

لقد توصل ماركس إلى أن تطور الرأسمالية وانتشارها سيساهمان في خلق خصومها وتوحيد صفوفهم ضدها:

" تجتاح الرأسمالية الكرة الأرضية بأسرها، تحثها الحاجة إلى الأسواق الجديدة دائما وضرورة أن تنفذ إلى كل مكان، وأن تقيم في كل مكان، وأن تخلق في كل مكان وسائل اتصالها...وتجر الرأسمالية، بالإتقان السريع لأدوات الانتاج ووسائل الإتصال، حتى أكثر الشعوب تخلفا في تيار المدنية...ولقد أخضعت الريف للمدينة، وخلقت مدنا عظيمة، وزادت بصورة مفرطة سكان المدن على حساب سكان الأرياف، وبذلك انتزعت قسما كبيرا من السكان من بلاهة الحقول".

وحين نتذكر تباهي النظام السابق بأن مصر شهدت نموا إقتصاديا ملحوظا خلال السنوات الماضية وأنها شهدت تطورا ملحوظا في حرية التعبير ينبغي أن نتذكر ماركس مجددا الذي أكد أن نمو الرأسمالية يحمل في ذاته سبب دمارها، وقد أدركت الدول الرأسمالية الكبرى هذه الفكرة منذ زمن بعيد، ولذلك شكلت نظاما موازيا من التكافل الإجتماعي ومكافحة آفات الرأسمالية لمنع مثل هذه الانفجارات المدمرة...وكارثة النمو الإقتصادي في مصر أنه قام على الفساد واللصوصية وأن النظام ورجال أعماله احتقروا واستخفوا بعشرات الملايين من الفقراء والمهمشين ولم يسعوا إلى تحقيق أي نوع من التكافل الإجتماعي وتهدئة الإحتقان الطبقي فدفعوا الثمن أضعافا.

ثورة الماتريكس

المخرج خالد يوسف والسيناريست ناصر عبد الرحمن كانا من المتنبئين بهذه الثورة في فيلميهما " حين ميسرة" و"دكان شحاتة"...هكذا ردد الكثيرون بعد 28 يناير...ولكنني أعتقد أن نبؤات كلا الفيلمين – مثل معظم الآراء والتوقعات في أوساط المثقفين المصريين – انحصرت في الفوضى والهيجان الإجتماعي وانتفاضات الجياع – أسوة بالحركات المصرية المشابهة في تاريخ مصر القديم والحديث، وأن أحدا لم يتخيل أن يرى ثورة حقيقية بهذا التنظيم والوعي.

صحيح أن عشرات من انتفاضات الجياع وحثالة البروليتاريا قد قامت وأثارت الفوضى بعد 11 فبراير، ولكن هذه لا تمثل الثورة السلمية الطاهرة من المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، التي قام صناعها بحماية الممتلكات والمنشآت وتنظيف الشوارع والكثيرون منهم ضحوا بوضعهم الإقتصادي المستقر وحياتهم في سبيل الآخرين.

أحدا لم يتنبأ إطلاقا بمثل هذه الثورة التي أصبحت مثلا ومثالا، خاصة أن الشعب المصري كان قد تحول إلى الغوغائية والهمجية والأنانية بشكل غير مسبوق في تاريخه قبيل هذه الثورة – أتمنى ألا يعود إلى سابق عهده بعدها.

من أين أتت الثورة بهذا الوعي والرقي وتوحيد الصفوف؟ بالتأكيد ليس من الملهمين والقادة والمثقفين...فهؤلاء لم يكونوا أقل احتقارا واستخفافا بالجموع، ولا أقل غرقا في مشاريعهم الفردية ووعيهم الفردي القاصر.

أعتقد أن الإجابة لدى ماركس أيضا، وبالتحديد لدى بعض المفكرين والفلاسفة الذين طورا نظريته عن "الحتمية التكنولوجية".

لقد اتفقنا على أن صناع هذه الثورة – الغالبية العظمى منهم – من مستخدمي الكمبيوتر والإنترنت ووسائل الإتصال الحديثة...ولا عجب من أن وزارة الداخلية غير المأسوف عليها قد قامت بقطع الانترنت والخطوط التليفونية يوم 27 يناير حين أدركت فجأة وبعد فوات الأوان أن الفيسبوك والمحمول يمكن أن يقضيان عليها.

حثالة البروليتاريا كانت غارقة في مطامعها الفئوية، والمثقفون كانوا غارقين في اجترار وعيهم الذاتي وتأملاتهم التي تجاوزها الزمن...ولكن في الواقع الإفتراضي الذي يتكون من جهاز كمبيوتر صغير بحجم العالم كله كان يتجمع ملايين الشبان والشابات من مختلف الخلفيات الفكرية والإقتصادية داخل غرف الثرثرة وصفحات الفيسبوك، يتناقشون ويختلفون ويتشاجرون ويضيعون الساعات يوميا في أحاديث لا معنى لها ولا طائل من ورائها.

كيف تحولت هذه الثرثرة إلى ثورة؟ وكيف حدث التوافق بين هؤلاء الذين لا يتفقون على شئ واحد؟

اتفقنا أن نطبق نظرية ماركس حول "الحتمية التكنولوجية"، والتي يمكن تتبعها منذ ما يعرف بنهاية الماركسية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وسور برلين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وصعود ما يعرف بالثورة الرقمية. لقد استبعد الماركسيون نظرية ماركس حول الوعي الذي يتغير بتغير التكنولوجيا وركزوا فقط على "الحتمية التاريخية" التي يصنعها الصراع الطبقي والوعي الذي تصنعه الفلسفة والثقافة، أي المضمون الذي ينتجه الوعي، وعندما سقطت هذا المضمون وتغير بفعل تطور التكنولوجيا أصبحت الماركسية التقليدية خارج الزمن.

منذ التسعينيات، وبالتحديد عقب حرب الخليج الثانية وبزوغ عصر القنوات الفضائية والثورة الرقمية وتطور الكمبيوتر ظهور الانترنت والهواتف والكاميرات المحمولة، دخلنا عالما جديدا من الوعي التكنولوجي لا مثيل له في التاريخ...وعي مرهف وفائق التطور لكنه خال من المضمون...وبحكم اقترابي من هذا العالم التكنولوجي كمستخدم للكمبيوتر والإنترنت والفيسبوك، وبحكم عملي كإعلامي متابع للفضائيات والسينما المستقلة الرقمية كنت أندهش من خواء المضمون الذي تحمله هذه التكنولوجيا، وكنت قد وقعت بالصدفة على كتاب قديم نسبيا للمفكر الأمريكي مارشال ماكلوهان بعنوان "الوسيط هو الرسالة" ملخصه أن تأثير الوسيط الإعلامي أهم من الرسالة والمضمون الذي يحملهما، وهو قارن اختراع التليفزيون بإختراع المصباح الكهربائي، وقال أن الإثنين غيرا حياة ووعي البشر بنفس القدر، وبغض النظر عن المضمون الذي يبثه التليفزيون سواء كان مادة ثقافية أو ترفيهية أو مجرد اعلانات سخيفة! وقد أشرت إلى هذا الكتاب في مقال بصحيفة "الفجر" في رمضان الماضي تعليقا على تفاهة المضمون الإعلامي السائد وأبديت اعجابي وتشككي في نفس الوقت من فكرته اللامعة...ولكنني خلال الشهور السابقة تعرفت على المزيد من الكتاب والأفكار من أنصار نظرية "الحتمية التكنولوجية".

من هؤلاء المفكر الأمريكي المصري الأصل إيهاب حسن الذي طور أفكار ماكلوهان وقال بالنص الواحد أن "الكمبيوتر سيصبح بديلا للوعي أو امتدادا للوعي الإنساني" ومنهم المفكر الفرنسي جان بودريلار الذي كتب في بداية الثمانينيات أن "وسائل الإعلام تحدث ثورة، بل أنها في حد ذاتها ثورة بغض النظر عن محتواها" وأنها ستحدث بالضرورة تغييرات اجتماعية وسياسية ما. لقد كانت زيادة مساحة حرية التعبير في عالمنا العربي – ومصر على الأخص – إحدى نتائج هذه الثورة التكنولوجية والنمو الإقتصادي الرأسمالي ولم يكن بمقدور أحد أن يمنعها أو يقلصها.

وقد رأى بعض مفكري نظرية "مابعد الحداثة" أن سقوط كل الفلسفات والنظريات السياسية القديمة لم يترك للإنسان سوى بديل التكنولوجيا لتحقيق حلمه الأزلي بالترابط بين كل البشر وتحقيق نوع من "الحكمة الإجتماعية" التي تتجاوز الحكمة الفردية وتعلو عليها، ولعل أدق وصف للحالة التي نعيشها الآن هي كلمات الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس صاحب كتاب "التكنولوجيا والعلم بوصفهما إيديولوجية" والذي تنبأ بأن وسائل الإتصال الحديثة وإعتمادها على الحوار واللغة أكثر من الإعتماد على العلاقات الطبقية سيؤدي – رغم الإختلافات والفوضى والبلبلة الفكرية – إلى ظهور نوع من الوعي الجماعي القائم على التواصل والإختلاف كبديل للوعي الفردي القديم القائم على التفاعل بين المتفقين فكريا.

ولعل هذه الأفكار تفسر حالة الوعي المبهر الذي ظهر على السطح فجأة خلال ثورة 25 يناير، ولم يكن يحلم به أي شخص حتى من صناع هذه الثورة نفسها...إنه الوعي الجماعي الذي صنعه الفضاء الإليكتروني للفيسبوك، والذي يتلخص في أن البشر قد يختلفون في كل شئ طبقيا وفكريا ودينيا وجنسيا، ولكنهم أسرى نظام فكري قديم وخارج الزمن، قائم على التناحر والإختلاف وإثارة الفتن، ونظام سياسي يقف وراء كل هذا ويؤججه، نظام مستبد وفاسد وكلي السيطرة لا بد من الخلاص منه أولا قبل أن نبدأ التفكير على أسس جديدة...شئ يذكرني بفيلم "الماتريكس" الذي يثور فيه البشر المستعبدون بكافة أطيافهم للخلاص من نظام التفكير المفروض عليهم.

ولعل هذا يكون أروع ما ستنتجه هذه الثورة.



هناك تعليق واحد:

  1. فعلاً الكمبيوتر والفيس بوك نجحا فى خلق وعى جماعى يرفض الواقع المر
    ويعلن أن هناك واقع أفضل يجب أن يُصنع
    ومبروك نجاح الثوره المصريه الشابه والمتميزه
    وربنا يكمل فرحتنا بالقضاء على جهاز أمن الدوله اللعين والذى أرى أن كل التوترات والحوادث الغير منطقيه التى تحدث فى مصرنا من صنع يده لوئد الثوره الوليده
    وحتى يظلوا أسياد المصريين

    ردحذف